الميزانية بين الأرقام والتنفيذ
يعتبر إعداد الميزانية السنوية –من الناحية النظرية- امرآ أساسيآ لإدارة البلاد في جميع النواحي.ولذا يترقب الكثيرون صدورها ومعرفة ما تحتويه من أرقام.والسؤال هنا هل هذا الإنتظار والتلهف له مايبرره؟أم أن الكثيرين يقعون في منزلق الوهم والسراب؟.
إذا أخذنا الإطار العام والمتمثل في الأرقام المجردة والتعليمات المالية المرفقة بالميزانية فإن الأمر قد يكون مقبولآ حيث يتضح للمتابع الحالة العامة للإقتصاد ومايمكن توقعه من مشاريع إلا أن التعمق في دهاليز الميزانية تظهر للمتابع حقيقة أخرى تقوده إلى عدم منطقية الإنتظار والتلهف والمبالغة في إحتفالية إعلان صدور الميزانية السنوية وكأنها العصا السحرية لحل مشكلات المجتمع ومعالجة ما يوجد من خلل تنموي.وهنا يحق للقاريء أن يتسأل ماهي هذه الخفايا أو الحقائق التي يتحدث عنها المقال؟دعونا نبحر معآ في بحر الميزانية المجهول ونبدأ بحقيقة ماتبنى عليه الميزانية وهو السعر التقديري لبرميل البترول.هذا السعر التقديري كان دائمآ بعيد عن السعر الحقيقي.إن هذا الأمر واضح وجلي خاصة منذ أزمة الخليج في عام 1990 لدرجة أن لاعلاقة بين الأثنين ولم يكن الفرق ضمن نسب مقبولة حتى لم يعد أي محلل إقتصادي قادرعلى فهم مايجري وأصبح الأمر يدخل ضمن مفهوم "مالكم دخل وحنا أبخص"والذي يهيمن لاشعوريآ على كثير من القيادات التنفيذية وكأن البقية يجب أن تحمد الله على ما يصل إليها من خيرات فقط دون أن يكون لها رؤية خاصة المتخصصين من إداريين أو أكاديميين .ومع أن مابني على باطل فهو باطل إلا ان الخفايا الأخرى تنسف هيلمة إصدار الميزانية.فالخفية أو الكارثة الأخرى أن قائمة المشاريع الواردة في الميزانية أتت بعد معاناة الجهات المعنية لإقناع من بيدهم الأمر خلال أشهر عديدة وكأنهم وحدهم الأعرف بإحتياجات المجتمع.ولذا فإن من أكثر الجمل الدارجة بين المسؤولين" هل تمت الموافقة على المشروع أم لا؟" وكأنهم ينتظرون الفرج لهمومهم حتى أن إختيار الأشخاص المعنيين بمناقشة الميزانية يخضع لمعاييرومواصفات خاصة.ومن الأشياء المضحكة أن التهاني يتم تبادلها عند النجاح في تضمين المشروع المطلوب ضمن مشاريع الميزانية المقترحة ويتم تأجيل الفرحة الكبرى حتى صدور الميزانية.أمرمحبط أخرهو عند التفضل بالموافقة على قائمة المشاريع تأتي كارثة أخرى هي تقدير القيمة المالية للمشروع وتوزيعه على عدد من السنوات حيث يتكرر المشروع سنوات عديدة بما يعطي إنطباع خاطيء عن مبالغ الميزانية السنوية.ولنأخذ مثالآ هنا لتوضيح الصورة:مشروع صرف صحي بمدينة ما أعتمد له خمس مائة مليون ريال نجد أن ما قد تحتويه الميزانية للسنة أ مثلآ خمسين مليونآ وهنا تقع الجهة المعنية في حيص بيص كما يقال.فمن جهة نجد أن المبلغ الكلي موزع على عدة سنوات لاتعلم الجهة متى وكيف تبرمج المشروع على أساسه.ومن جهة أخرى فإن طبيعة بعض المشاريع مثل الصرف الصحي يصعب ترسيتها بمبالغ قليلةلإن تكلفتها عالية وتحتاج إلى شركات متخصصة وليس من الكفأة الإقتصادية أخذها على شكل جزئيات.ولذا تولد مشوهه حيث يتقدم للمشاريع مقاولي الحفريات أكثر من الشركات المتخصصة وبالتالي تمتلء شوارعنا بالحفريات التي نرى متى تبدأ ولا نعلم متى تنتهي.
خلل أخر مرتبط بالميزانية وهو ما يعرف بالسيولة!!!حيث لايعني إعتماد المشروع وإعتماد مبالغه والتي أشرنا إلى خللها أن الأمور واضحة.فكلنا يعرف معاناة الجهات الحكومية والمقاولين والشركات من صرف مستحقاتهم حيث يدخلون في دائرة أخرى من الخلل البيروقراطي أقلها ما يعرف بالممثل المالي الذي يتبع لوزارة المالية ويتواجد في الجهات الأخرى والذي لابد أن يعتمد أي مستخلص.وهنا يجب أن نشير إلى أن الإنتقاد ليس موجهآ لإشخاص هولاء الممثلين الذين ينفذون التعليمات ولكن للمنهجية الإدارية التي أوجدتههم .وهنا نتسأل هل الإدارات المالية في القطاعات المختلفة غير قادرة أم أنها غير موثوق بها مع أنها تعج بالمئات من الموظفين المتخصصين؟.أعتقد أنه الإرث الإداري المستورد من دول تجاوزته الأن وما زلنا نحن نرعاه ونؤمن به.ثم هناك سؤال أخر جوهري –إذا كنا قلقين من الفساد- هوأين دور ديوان المراقبة العامه والذي يشهد له الجميع بالدقة والحرص ومتابعة الصغيرة قبل الكبيرة. أليس وجوده كفيل بكشف ومساءلة أي تجاوز أو ممارسة خاطئه؟
ولكي نزيد الطين بله كما يقال نعرج على دهليز أخر من دهاليز الميزانية وهو العمر الزمني الحقيقي للميزانية حيث هو في الحقيقة ثمانية أشهر بدلآ من إثنا عشر شهرآ.فكلنا يعلم أن الشهرين الأخيرين من السنة الميزانية يتوقف تقريبآ الصرف إلا ماندر. أما الشهرين اللذين يتبعان إعلان الميزانية فهي تضيع في وصول الميزانية للجهات المعنية ودراسة ماإحتوته ووضع الخطط والأليات للتنفيذ.
إن من يلم بما يحصل عندنا يصل إلى نتيجة بديهيه هي أن من يخطط ويدير التنمية هي وزارة المالية وليس وزارة الإقتصاد والتخطيط أو الجهات ذات المسؤولية المباشرة فهي-أي وزارة المالية- صاحبة القرار الأول والأخير في كل شؤون التنمية وأي كلام غير ذلك هوخداع للنفس قبل الأخرين.ويكفي أن نشير أن أسم وزارة المالية هو الأكثر تداولآ في اللجان والإجتماعات والندوات ذات العلاقة بالتنمية أوتنفيذ ونقص المشاريع .ولقد نجد في بعض الأحيان أن نسبة الإنحراف عن الخطة يصل نسب عالية توحي بإن بذل الجهد في إعداد الخطط هو مضيعة وقت.
إن الحل البديهي هو في وضع وزارة المالية ضمن دورها الطبيعي المعروف عالميآ بحيث يقتصر على إدارة الموارد المالية وإعطاء السقف المتوفر للصرف السنوي على أن يدخل في حساب كل جهة مايخصها ودفعة واحدة بداية كل سنة مالية وبالتالي نوفر الوقت والمال ونحدد المسؤولية عن التقصير إذا حصل بدلآ من إضاعة دم المشاريع بين القبائل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق