الجمعة، 3 فبراير 2012

جده المعقل الأخير للإنفتاح


جده المعقل الأخير للإنفتاح

من أهم مميزات المجتمعات الراقية الانفتاح العقلي و الثقافي و تقبل الآخرين و عدم فرض سلوكيات فئة على آخرى. و تمر المجتمعات بفترات تتغير فيها إما بظروف داخلية أو خارجية و بالتالي تشوش على هذه الميزة الإنسانية العظيمة.

إلا أن المجتمعات الناجحة و التي تتوفر لها معطيات التطور لا تلبث أن تعود إلى وضعها و موقعها الأصيل. إن الانفتاح الاجتماعي هو قيمة سلوكية يجب أن يحرص عليها كل فرد منا فبها نبني مجتمعآ متكاتفآ  يحب فيه كل واحد لأخيه مايحب لنفسه.

ومنذ الثمانينات الميلادية و المجتمع السعودي يمر بمرحلة استثنائية في نوعية حياته الاجتماعية داخل المملكة ( وليس خارجها ) يمكن وصفها بأنها تشهد تقلصآ واضح لقيمة إنسانية هي الإنفتاح الاجتماعي و تقبل الآخرين و التطلع إلى مستقبل لا يتعارض مع ماتعيشه المجتمعات الإنسانية الأخرى. كلنا يتذكر ماكانت عليه على سبيل المثال مدينة الرياض في السبعينيات عندما كانت في بداية انطلاقتها العمرانية. لقد كانت تعج بالتنوع الإنساني المتداخل و المتمازج بين السكان السعوديين و غيرهم دون حساسية أو تخوف من الطرفين. لم يكن مستغربآ أن تجد شابآ سعوديآ و معه صديقه أو زميله الأمريكي أو الإيطالي أو اللبناني........ و هما يتناولان المأكولات في شارع العصارات الذي كان له" صنه ورنه" في تلك الأيام أو يدعوه إلى بيته ويقابل أهله ويتعرف عليهم ويخرج معهم إلى طلعات البر التي لم تكن تحيط بها الممنوعات والمحذورات.

كانت الأندية الرياضية تعج بالداخلين إليها و مشاهدة أفلام سينمائية تعرض ليليآ و بتذاكر رسمية تمثل دخلآ للأندية. كان المجال الترفيهي السينمائي في الأندية نوعآ من الانفتاح الاجتماعي الذي يعول عليه في إمتصاص وقت فراغ الشباب وضمانة مكانية لوجودهم تحت النظر. و من كان لا يرغب في هذه الخدمة فليس عليه إلا الذهاب إلى حي السينما في المربع لإستئجار ما يشاء من أفلام.

كانت طلعات البر نموذجآ رائعآ للإنفتاح الاجتماعي حيث تشهد الأماكن المحيطة بالرياض ألآلاف العوائل متجاورة تتمتع بالجلسات البريئة ولم تكن تواجه حملات أو تدخلات تنكد عليهم أوقاتهم. الكل سعيد و فرح مع الأخر يلعبون و يتسابقون دون معرفة سابقة أو حاجة إلى حواجز تبنى حولهم. لم يكن أحدنا يسأل الأخر من أي مدينة أو منطقة هو، أو يحكم عليه من ملبسه و شكله، بل يتعامل معه بإنفتاح و تقدير و نظرة أخوية و إنسانية راقية.

 وعندما يرغب أحد في زيادة المتعة الاجتماعية فإن سفرة إلى الخبر أو الطائف أو جده تعتبر إضافة محسوسة و متعة يتذكرها الصغير و الكبير بعد العودة من الإجازة. كانت هذه المدن تقدم حلولآ متطورة للإنفتاح الاجتماعي و الترفيه الراقي حيث كانت تزخر بالأسواق و المنتزهات و المقاهي و حتى مايمكن تسميته مجازآ " دور سينما". كان الناس يذهبون إلى هذه المدن فيطلقون العنان لأنفسهم و عوائلهم للاستزادة من معنى و قيمة السياحة و الترفية.

نعم كانت الحياة الاجتماعية أكثر إنفتاحآ وأكثر تقبلآ للآخرين. وكان التمازج بين أفراد المجتمع في طريقه الصحيح حيث كل يحترم الأخر و يحترم قيمه و سلوكياته و لا يتدخل في خصوصياته. ولكن إستمرار الحال من المحال. فقد أخذ بعبع الانغلاق المسيس يرسم طريقه و يكون آلياته و برامجه التي تأكل عنقود العنب حبه حبه. فكانت الرياض هي البداية حيث أختلط الحابل بالنابل و أصبح كل يريد تقويم سلوك الآخر و فرض حياته عليه. و مع هذا الواقع البائس إلا أن الإحساس بثقله كان مقدورآعليه حيث مثلت المنطقة الشرقية و شواطئها ومدنها خاصة مدينة الخبر متنفسآ إجتماعيآ يمكن زيارته و غسل الهموم على شواطئ نصف القمر (هاف مون) و العزيزية و شارع الملك خالد و غير ذلك. إلا أن محاربي الانفتاح الاجتماعي و منغصي الفرح البرئ لم يستكن لهم ساكن حتى وصولوا لها و ألحقوها بمدينة الرياض. كما أن جهودهم في تلك الفترة وصلت إلى مدينة الطائف و تم تحجيم هذه المدينة الرائعة و إفراغها من محتواها القائم على أنها مصيف المملكة الأول و أفضل مكان لقضاء الأجازة الصيفية.

و مع بزوغ نجم أبها و نجاحها إلا أن نصيبها هي الأخرى كان مثل نصيب أخواتها حيث حوصر الإنفتاح و قتل الفرح و وضعت في إطار تقليدي يخدم فئة معينة.

كل ذلك أدى إلى ما نشاهده اليوم من خروج مئات بل ملايين الناس إلى الدول الأخرى بحثآ عن إنفتاح إجتماعي مقبول و ترفيه إنساني محترم. نحن نخسر بلايين الريالات سنويا لأننا أغلقنا مدننا بالضبة و المفتاح و حرمناها من قيمة إجتماعية ضرورية أسمها الانفتاح الاجتماعي.

ومع كل هذا الواقع المؤلم إلا أن مدينة جده بقيت صامدة حتى الأن إلى حد ما تكافح و تقاتل و تبحث عن طريق و مخارج تقيها هجمة بعبع الانغلاق. و مع ما عانته هذه المدينة الرائعة من نقص في الخدمات و ماشهدته من حرمان في البنية الأساسية إلا أنها هي المدينة التي مازالت قادرة إلى جذب الآخرين إليها كمدينة لا ترفضهم ولا تقيدهم بسلاسل الانغلاق و لا يخيم عليها الخوف من حملات الترهيب و الانغلاق. لقد أصبحت مدينة جده بمسؤوليها و سكانها هي المعقل الأخير للإنفتاح الاجتماعي فهل تصمد؟ و إلى متى يمكن أن تصمد؟

إن هذه المدينة الحالمة كعروس للبحر تستحق منا جميعآ الدعم و المؤازرة و عدم السماح بإضافتها لأخواتها المدن الأخرى. إنها نموذج يجب أن نعمل على تقويته و تقديمه للآخرين للاسترشاد به و أخذه قدوة في مجال الانفتاح الاجتماعي و التمازج السكاني و نبذ الانغلاق الفكري و السلوكي.








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق