1- ضرورة اللمسة المحلية في العملية التنموية
يقال أن صياغة السؤال أصعب من إجابته لإن القدرة على الوصول إلى جوهر الموضوع وطرح سؤال واضح يبين مكنون المسؤول عنه هي حالة ذهنية لا يوفق الكثيرون بالوصول إليها. نعم فإيجاد السؤال ليس بهذا البساطة لأن تركيبه يجب أن يحتوي عصارة الفكرة المراد الوصول لها. وأخذاً بهذا الجدل أجدني محتاراً في الوصول إلى سؤال يراودني دائماً وهو كيف نقيس تنميتنا التي عشناها منذ إنشاء الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله؟ السعودية حققت قفزات تنموية خلال المائة عام الماضية وذلك في ضوء المفاهيم التقليدية للتنمية من حيث بناء الدولة وتوفير التجهيزات للبنية الأساسية وتحسين المستوى المادي لحياة المواطن. هذا الواقع لا خلاف عليه والأرقام شاهدة وساطعة أمام كل راغب في الإطلاع. ولقد كانت المرحلة الأولى من التنمية تقوم على قناعة ورؤية التنويريين لأن غالبية المجتمع في ذلك الوقت لم يكونوا ذوي تجربة كبيرة في التنمية وتندر فيهم الكوادر المتعلمة والمطلعة على مايحدث في العالم. ولذا كان مفهوم التنمية من أعلى إلى أسفل أمراً مقبولاً بل مرغوباً. لكن هل الحال اليوم كما كان بالأمس؟ الجواب طبعاً لا فالمجتمع اليوم مليء بالكفاءات ومستوى الوعي بأحسن حال والجامعات تنتشر على كامل رقعة الوطن. ومن هنا بدأنا نشاهد الحاجة إلى طرق أساليب أكثر حداثة في تحقيق التنمية وأن ما كان يرغبه الأجداد ليس بالضرورة ما يرغبه الأحفاد. فماهي المشكلة؟ ولماذا حرصت على طرح سؤال جاد عن التنمية؟ الحقيقة إن القلق الذي يدور عندي من موضوع التنمية هو إغفال البيئة الاجتماعية التي تعمل بها هذه التنمية والحاضنة لها. أي أن سؤال المليون (كما يقال) هو هل المجتمع كمكون أساسي ومستهدف للتنمية راضي ومقتنع بإبعاد التنمية وما وصلت إليه؟ بل قد نضع السؤال بصيغة أخرى أكثر حدة وهو هل المجتمع ليس متضرراً من بعض برامج وتوجهات التنمية التي فرضتها عليه الأجهزة الحكومية؟ وفي هذه المناسبة أتذكر حديثاً دار بيني وبين زميل متخصص في التنمية وكنا في زيارة لإحدى المحافظات أثناء إعداد استراتيجيات تنموية لبعض مناطق المملكة وكنا في جزء من المحافظة يغلب عليه النشاط الزراعي وتناثر التجمعات السكانية وكان أكثر السكان يعمل في نشاطي الزراعة والرعي وكانت قراهم تنعم بحد معقول من الخدمات الأساسية . فكان سؤال الزميل لماذا نريد أن نغير واقعهم عن طريق التخطيط؟ وهل هم غير راضين عن واقع حالهم؟ ولعل كلمة الزميل مازالت ترن في سمعي وهي أنه في أحيان كثيرة يكون "أحسن أساليب التخطيط هو عدم وجود تخطيط". ما أريد أن أصل إليه هو أن وجود واقع حال متصاف مع محيطه ومنسجم مع بيئته خير من تدمير هذا الواقع بدعوى نقلهم إلى مستوى أفضل من التنمية وذلك بإدخال معطيات جديدة وتخريب النسيج الاجتماعي والاقتصادي القائم والذي له جذور تمتد لمئات السنين. يقول المثل الشعبي "ما كل بيضاء شحمة" فمن واقع تجربتي الشخصية (وليس بالضرورة أنها صحيحة) إن هنالك مسافات دقيقة وحساسة بين فرض التنمية وطلب التنمية من مجتمع ما. وهذه المسافات من الدقة والأهمية بحث لا يعرفها ولا يحس بها إلا من هو مرتبط بالمجتمع وأحد أبناءه الواعين لمتطلباته ولذا فإن إعطاء الخيط والمخيط لخبراء التنمية العالميين ليس ميزة كبيرة كما قد يرى بعض موجهي التنمية لأن منطلقاتهم وفلسفتهم لا تنبع من فهم الواقع المحلي ولا تتشرب مطالب ورغبات المستهدفين بالتنمية بل أنهم (أي أكثر الخبراء الأجانب) يركنون على الكتب والنظريات العالمية فهم ليسوا مستعدين لإجراء تعديلات على نظرياتهم وأساليبهم ولكنهم يطلبون تغيير البيئة المحلية (سكاناً وأرضاً ومبادئ) لتتناسب مع نظرياتهم !!! ولعل ذلك الغلو التنموي هو ما أدى إلى فشل كثير من البرامج التنموية في دول العالم الثالث خاصة في أمريكا الجنوبية وآسيا. ومن الطرف في هذا المجال يذكر أن عالماً مشهوراً كان وصل إلى نماذج معينة للتنمية تقوم على بناء مصفوفات ونماذج محددة وبإدخال أرقام المجتمع المستهدف يتم اختيار النموذج المطلوب لتنمية ذلك المجتمع. وبناء على شهرة هذا العالم فقد استدعته إحدى الدول الراغبة في التنمية للإستفادة من خبرته وتجربته لكي يقدم لها النصائح اللازمة. وعندما وصل لهذه الدولة المعنية وتم مناقشته بماذا يقترح قال لهم لا بد من استكمال بيانات النموذج العلمي القائم على مدخلات وبيانات محددة قبل أن استطيع إبداء أي رأي فوقع الداعون له في حيرة ولكنهم أخبروه أخيراً بأنه لو كانت طلباته متوفرة لكي يبدي النصيحة لما احتاجوا لدعوته وصرف الأموال على رحلته.
فأصبح الحال كأن هنالك شخصين يجلس كل منهما على رأس جبل ويريد من الآخر أن يمشي بإتجاه دون وجود جسر يصلهما ببعض. المهم بعد جولة من النقاشات اقتنعت الدولة الداعية بأنها تضيع مالها ووقتها مع هذا الخبير فشكرته وطلبت منه المغادرة ... إلخ ولعل الأمثلة من هذه النوعية من الخبرات والخبراء كثيرة لا تعد ولا تحصى لو أردنا سردها.
المهم إن الاستفادة من الخبرات العالمية أمر غير ممنوع ولكن يجب أن يوضع في إطاره الصحيح لكي يكون إضافة وليس بديلاً للتجربة المحلية والمثل يقول "ما حك جلدك مثل ظفرك" .
ولكي نحقق تنمية مستدامة وناجحة فيجب أن نديرها ونوجهها باللمسة المحلية والتجربة الوطنية ولكي نضمن إستمرار نجاحها فيجب أن نقيسها بمدى رضا المجتمع المحلي عنها وسعادته من مخرجات التنمية وحسب معاييره الخاصة. ولو أخذنا مثالاً متطرفاً لذلك بهدف الإيضاح ونزلنا إلى حدود السلوك الشخصي فمن يقول أن العيش في شقة فخمة بها مظاهر الحداثة في مبنى يتكون من 30 دوراً هو ما يناسب ساكن مدينة صغيرة بدلاً من سكن بسيط لا يتعدى ارتفاعه 4 أمتار حتى لو كان من الطين أو البلوك ولكنه يعطيه راحة نفسية ويزيد من تواصله مع بيئته الاجتماعية والاقتصادية التي يرغب ويفهم وتمكنه من الإنجاز والإنتاج في ضوءها.
أعلم أن الموضوع متشعب وقد لا يجد قبولاً عند المتأثرين بناطحات السحاب ومدن النيون واللوحات الإعلانية العملاقة والصاخبة ولكن ما أطرحه هو رأي له وجاهته على مستوى العالم فالتنمية ليست نظريات ونماذج جامده تفرض على الجميع ولكنها تمكين للمجتمع واستثمار لموارده حسب احتياجه ورغباته وإعطاء أهمية قصوى للبعد المحلي الذي يتقبله المستهدفون بالتنمية .
في الجزء (2) من الإجابات على الموضوع سوف نحاول أن نطرح معياراً هاماً يمكن الإسترشاد به لقياس التنمية الشاملة ومدى أخذها بالبعد المحلي كمكون أساسي وهام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق