الأحد، 12 ديسمبر 2021

كيف نقيس وندير تنميتنا؟ (2-4)

2- هل المطلوب هو التركز السكاني أم إنتشاره؟ 

أشرنا في الجزء الأول من الموضوع (1-4) إلى أننا سنتطرق إلى عامل مهم في قياس وإدارة التنمية ألا وهو التوازن السكاني على الرقعة المكانية لأن ذلك يمثل نتيجة للتنمية وفي نفس الوقت قد يكون من أهدافها الأساسية. الكل يعلم أن التنمية جهد كبير يقوم على ركائز متعددة لايمكن إهمال أحدها على حساب الآخر. فتحديات التنمية أمر طبيعي وحقائقها ومعطياتها على أرض الواقع ليست بالضرورة ما كان مرسوماً ومخططاً له. فالتنمية هي حراك مستمر(Dynamic)  وليست قواعد ثابتة جامدة (Static). فلو كانت النتائج لأي برامج تنموية كما في الكتب لأصبحت التنمية كما يقال "قطعة كيك" (Piece of cake) ولكان عناء وجهاد التنمية أمر مقدور عليه. إن حقيقة التنمية هي كالحصان الجامح الذي تعده للسبق وتضع له كل الموارد والإمكانات وتختار السايس والمدرب المناسب ولكنه يفاجئك بما يفعله في مضمار السباق لدرجة أنه قد يترك المضمار أو يسقط الجوكي. فماذا أنت فاعل في هذه الحالة؟ المنطق يقوم أن كل ما عليك فعله هو أن تعيد الكرة وتغير ماترى ضرورة تغييره ومن ثم تبدأ الاستعداد مرة أخرى لسباق جديد. بكل بساطة عليك أن تعمل بدون كلل أو ملل وبشكل مستمر فالسباقات مستمرة والميادين عديدة.

هذا هو واقع جواد التنمية فالمجتمعات (أو بالأصح القادة والمختصون) يرسمون الأهداف ويوفرون الموارد ويبدأون التنفيذ ولكن يجب أن تبقى أعينهم مفتوحة بصفة مستمرة لمراقبة ما يحصل على الأرض وتصحيح أي إنحرافات إذا وجدت عن ما كان مستهدفاً. وبدراسة بعض نتائج التنمية في المملكة أتضحت لدي بعض الأمور التي تتعلق بالسكان ومدى انتشارهم على رقعة الوطن فأحببت أن أشارككم هذا الأمر مع قناعتي التامة أنه تحت المجهر ولكن من باب ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين. ومثل الكثير من معطيات التنمية فإن موضوع الإنتشار السكاني يعتبر قضية جدلية بين مدارس التنمية فهناك من يرى أن تركز السكان في عدد محدود من المدن سيؤدي إلى قوة فاعلة لتحريك إقتصادياتها كما أنه أسلوب مناسب لترشيد الإنفاق على الخدمات والبنية الأساسية ورفع معدل الفائدة من حجم الإنفاق. بينما يعارض البعض هذا التوجه ويرتكزون أساسًا على أمرين هما العدالة المطلوبة في إيصال منافع التنمية حتى لو كان لقرى سكانها بالعشرات. أما الأمر الآخر والذي له أسانيده العقلية فهو موضوع الأمن الوطني فليس من الحكمة أن تكون هنالك مساحات شاسعة من الحيز الوطني خالية من السكان مما يجعلها منطقة رخوة معرضة للإخلال بالأمن الوطني سواء من جهات خارجية أو داخلية. فوجود تجمعات سكانية منتشرة ولوكانت متباعدة هي عبارة عن محطات أمنية تحمي الأرض وتساعد الحكومة في مواجهة اي إخلال بالأمن الوطني . ولذا فإن مؤيدي هذا البعدالتنموي يصرون على أن النظرة المالية لوحدها يجب أن لاتكون موجودة في مثل هذا الأمر وأن المطلوب هو العناية بالأمن الوطني المستهدف عن طريق الانتشار السكاني حتى لو كانت تكاليفه عالية نسبياً حسب معايير المالية العامة.

والحقيقة أنني من مؤيدي الانتشار السكاني المدروس ولذا فإن أي اقتراحات لتقليص عدد القرى والهجر وعدم توفير احتياجتها الاساسية بدعوى ترشيد الإنفاق أمر غير مناسب (أو ضار) لحماية الأمن الوطني. إن معطيات التنمية المستهدفة يجب أن لا تركز على بعد واحد ولكن عليها ان تتسع وتأخذ كافة الأبعاد ومن ذلك الأمن الوطني لكامل مساحة الوطن من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه عن طريق العناية بالتنمية المكانية بمفهومها العلمي القائم على أنها الوجه الآخر لعملة التنمية.

إن التنمية الراشدة والرشيدة هي مايناسب كل مجتمع ويحترم خصوصياته وواقعه وليس ما تدعو له المراكز الرأسمالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، أو ما تعمل عليه الدور الاستشارية الدولية التي تلهث وراء تكوين وزيادة أرباح الرأسماليين بصرف النظر عما تلحقه من ضرر بالأكثرية أو ما تصل إليه من إجحاف لحقوق الكثيرين اللذين يأملون بتحقيق العدالة الاجتماعية والأمن الشامل حتى ولوعاشوا في خيام بسيطة أو دور متواضعة.

إن توجهات المؤسسات الرأسمالية العالمية ليست خيراً كلها ولعل ماحصل في كثير من دول أمريكا اللاتينية خير شاهد حيث غيرت مساراتها التنموية وأخذت بنصائح هذه المؤسسات مما أدى إل خروج أكثرها عن الطريق فلا هي طالت بلح الشام ولاعنب اليمن واصبحت مثل "معيد القريتين". إنها دعوة صادقة للعمل بمبدأ التنمية الشاملة وأخذ كافة الأبعاد والمعايير ومن ذلك إعادة النظر في أعداد مراكز النمو (الوطني والإقليمي والمحلي) التي اعتمدتها الإستراتيجية العمرانية الوطنية والتأكد من أن شبكة مراكز النمو تغطي كافة أجزاء الوطن. كذلك ليس هنالك ما يمنع من أخذ مراكز تنموية إقليمية (Sub-international) ضمن منظور المحاور التنموية وما تتضمنه من مراكز النمو. ولعل جولة صاحب السمو الملكي الأمير محمد  بن سلمان ولي العهد ورائد التنمية في دول الخليج العربي وإعطاء البعد التنموي مايستحقه من عناية في محادثاته مع إخوانه قادة الخليج خير شاهد على ما نأمله ونتوقعه مستقبلاً. وأخيراً نختم هذا الجزء بالإشارة إلى أن التنمية ليست مالاً يودع في البنوك ولكنها حياة كريمة للجميع وعلى رأس ذلك تعزيز الأمن الوطني وإعطاءه الصفة الشاملة وتحقيق التوازن السكاني وتوزيعه المدروس على كافة الرقعة المكانية.


 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق