الاثنين، 27 ديسمبر 2021

كيف نقيس وندير تنميتنا؟ (3-4)

 3-دور الأدوات المالية والبشرية على المستوى الإقليمي والمحلي

 يتضح من وجهات النظر التي وردت في (1+2) من موضوع "كيف نقيس وندير تنميتنا" وكذلك ما سبقها من طرح تحت عنوان "بوح مواطن بشأن التنمية" أن المبدأ الأساسي الذي تمحورت حوله كافة وجهات النظر ينطلق من مبدأ الأخذ بالتنمية الشاملة والتي تقوم على أبعاد إقتصادية ومكانية لا بد من استيعابها وعدم تغليب أحدهما على الآخر.

ولذا فإنني أعتقد أنه من الضروري أن نتعامل مع الطرح بخصوص دور الأدوات المالية والبشرية بارتباطه بالتنمية الشاملة وذلك حتى يكون ذو معنى ويتسق مع المظلة الأساسية وهي تحقيق التنمية الشاملة وتعريفها الذي ألمحنا له أعلاه.الكل يعلم أن المملكة شهدت ولله الحمد خلال الأربعين سنة الماضية طفرة غير مسبوقة كان من أهم نتائجها توفر الكوادر البشرية المتعلمة والمتخصصة، كما أصبحت الموارد المالية اللازمة للبناء التنموي ليست عائقاً أمام متخذي القرار حيث بذلت الجهود بإستثمار ذلك وكانت النتائج جيدة في معظم الأحيان خاصة في موضوع البنية الأساسية للخدمات والمرافق. كما أنه صدرت كثير من الأنظمة والتعليمات لتحقيق التنمية الإدارية في كافة أجزاء الوطن ولعل من أهمها إنشاء مجالس المناطق والمحافظات.

 وهنا يجب أن نوضح أن المسار التنموي لأي مجتمع يكون في الغالب نتاج الجهود التراكمية، فالمجتمع الواعي هو الذي يقوم كل فترة زمنية بمراجعة ما تم والإستفادة من الإيجابيات لرسم المسار المستقبلي. ولعل من نافلة القول أن واقع المجتمع في السابق كان يفرض الأخذ بمبدأ المركزية في معظم الأمور، ولذا كانت الجهود لتنمية المناطق والمحافظات في معظم الأحيان تتبع المسار التقليدي العنقودي الرأسي في إتخاذ القرار من صرف واعتمادات وتوفير الكوادر البشرية. ومع عدم الإنكار أن هنالك الكثير من الإنجازات التي تحققت إلا أن هذا الأمر له محاذيره (خاصة مع التطورات التنموية الحديثة والجديدة التي تشهدها المملكة) ومن أهمها تخلي كثير من مسؤولي التنمية على مستوى المناطق والمحافظات عن دورهم الكامل والشامل بدعوى أنه يرفع للجهات المركزية ولكن لا يأتيه الجواب لدرجة أن بعض من قدرته الإدارية ضعيفة أو أقل من المطلوب وجد في ذلك فرصة للهروب من تقصيره وسوء أداءه، فكل مرة لديه شماعة يعلق عليها كبواته (وقد يكون عنده بعض الحق في بعض الأحيان). إن مبدأ ومبرر "لقد رفعنا للجهات العليا" هي كليشة جاهزة عندما يحاصر المسئول على المستوى الإقليمي أو المحلي ويواجه بالإخفاقات وعدم الإنجاز على المستوى المأمول. ومثل هذه الأمور والجدل حولها وهل الصحيح المركزية أو اللامركزية هي ميدان واسع سبقني الكثيرين في مناقشته وطرحه، كما أنني قد عشت مثل هذه التجارب، فلا تعلم هل تلوم المسئول المقصر أو المسئول المركزي الذي يقيده بالقرارات والتعليمات. اليوم تشهد المملكة نظره جديدة للتنمية تنطلق من رؤية 2030م وأصبح إنشاء العديد من الهيئات لتطوير المناطق والمحافظات أمراً واقعاً ومشاهداً مما يدل على أن القيادة الحكيمة رسمت منهجاً متطوراً لتحقيق التنمية يتخلص من الإرث البيروقراطي السلبي الذي قد يكون عائقاً أمام تحقيق الطموحات الكبيرة المستهدفة للملكة العربية السعودية. إن أخذ كل ما سبق في الإعتبار واستيعاب ما هو وطني وما هو محلي سيؤدي بالضرورة إلى أهمية تطوير وإنشاء آليات وإجراءات للموارد المالية والبشرية في المناطق (الأقاليم) تختلف نوعاً ما عن ما هو سائد أو أنها ستدعم التوجهات الجديدة القائمة الآن، وعليه فإنه يمكن إيضاح بعضها كما يلي:

أ-الموارد البشرية: تعتبر الموارد البشرية وتحديد الإحتياج منها هي الوجه الآخر لما يعرف بالتنمية الإدارية. فحسب النظام الإداري وهياكله وتخصصاته يتم تخصيص الاحتياجات عدداً ونوعاً وكذلك يعد الهيكل التنظيمي وتعتمد إجراءاته العملية لتحقيق الاستفادة الكاملة من أبعاد التنمية الشاملة المستهدفة ولذا فقد يكون مناسباً القيام بتغيير إداري كبير للعلاقة بين الأجهزة الحكومية المركزية وأقاليم (مناطق) المملكة خاصة أن القيادة السعودية الحكيمة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ورائد النهضة الحديثة صاحب السمو الملكي الأميرمحمد بن سلمان ولي العهد إتجهوا كما أشرنا سابقاً إلى خطوة مباركة وهي إنشاء هيئات التطوير لمناطق وبعض المحافظات، ولاستكمال هذا التوجه فقد يكون منطقياً النظر في تحديد نوعية المشاريع الوطنية التنموية والتي ستكون من مسؤوليات الأجهزة المركزية، أما ما عدى ذلك فيترك للمناطق حسب إمكاناتها وظروفها واحتياجاتها. وهنا دعونا نتذكر واحدة من أشهر مآثر الملك عبدالعزيز (رحمه الله) وهي مقولته المعروفة (يرى الحاضر ما لا يرى الغائب) والتي كانت منهجاً إدارياً ودرساً رائعاً لمن كان يعمل تحت إدارته.وعليه فإن تحقيق مفاهيم التنمية الشاملة والتي سيكون البعد المكاني أحد ركائزها تتطلب إعادة هيكلة لمنظومة الإدارة المحلية. وهنا نقترح بأن يتم الفصل التام إدارياً وربط كل أجهزة أي منطقة بمجلس المنطقة الخاص بها والذي يرأسه أمير المنطقة. وبهذه الخطوة فإنني متأكد من أن الأخذ بهذه التجربة سيطلق أفكاراً إبداعية لكل منطقة بحيث تحدد أولوياتها ونوع الأجهزة الإدارية اللازمة وما تحتاجه من كوادر (أدوات) بشرية. إن نمطية الأجهزة الإدارية في مناطق المملكة هو شكل روتيني لم يعد يتناسب مع مستقبل التنمية، فعلى سبيل المثال فقد تكون منطقة ما بحاجة إلى إدارة للصناعة ومنطقة أخرى تحتاج إلى إدارة للسياحة ولكن ليس من المعقول أن تكون كل الإدارات المركزية ممثلة في المناطق بصرف النظر عن واقع الحال في المنطقة المعنية.لقد أصبح الوقت مناسباً أن نكسر المسار الإداري القائم على خدمة (الإيصال البريدي) بحيث تكون المعاملات صادرة واردة بين الفرع والمركز دون فائدة تذكر.

الموضوع طويل وتفاصيله كثيرة ولكن ما أرجوه هو التمعن في الفكرة. إن تنميتنا المستقبلية بحاجة إلى أدوات بشرية وإدارية (كماً ونوعاً) تختلف من مكان لآخر والقيام بذلك ستنعكس بإذن الله آثاره على الجميع من ناحية زيادة معدلات التنمية في المناطق وكذلك رفع كفاءة الإنفاق من المالية العامة وتقليص الهدر بسبب البطالة المقنعة المشاهدة في كثير من الأجهزة المركزية.

ب-الموارد المالية: لا شك أن موضوع الموارد المالية مرتبط بشكل تام مع ما تم طرحه في الفقرة " أ " (الموارد البشرية) لأن كل تنظيم إداري سينعكس على أسلوب وكيفية توفير ما يحتاجه من موارد مالية. وبناءً على ذلك فقد أصبح من الضروري إجراء هيكلة حقيقية لذلك تقوم على اساس كفاءة وقدرة الأقاليم (المناطق) في إدارة مواردها المالية بناءً على أولوياتها واحتياجاتها وهذا يتطلب في رأيي التفريق بين أمرين هما:

1-مشاريع ومرافق وخدمات ذات بُعد وطني تتولاها الأجهزة المركزية.

2-تنمية الإقليم والمنطقة وتحديد أولوياتها ومشاريعها وخدماتها ويتم ذلك بموارد خاصة لكل إقليم تربط إما بالهيئات التطويرية التي انتشرت الآن في المناطق أو تكون هذه الموارد ضمن مهام وأعمال مجالس المناطق برئاسة أمراء المناطق.

وفي هذا الواقع المستهدف فإن تخصيص الموارد اللازمة لكل منطقة يمكن أن تتوفر من مصدرين هما الدعم من قبل الميزانية العامة للدولة وذلك حسب الحجم السكاني لكل منطقة، أما المصدر الآخر فهو مداخيل كل منطقة من رسوم وضرائب وإستثمار لموارد المنطقة.

ودون الدخول في عمق كافة التفاصيل لهذه المقترحات الواردة في الفقرات (أ ، ب) أعلاه (لأن الهدف هنا هو الفكرة وليس كامل الدراسة والبحث) فإنني أرى عدم التردد في الإنطلاق لهذه التوجهات الحديثة في الإدارة المحلية لأن هذا هو الأنسب خاصة لدولة كبيرة المساحة مثل المملكة العربية السعودية. لقد أصبح الأمر جلياً بالحاجة إلى تخليص الإدارة المحلية من الشحوم والزوائد الدهنية المضرة وإدخالها في برامج تأهيلية تمكنها من استعادة القوام الرياضي الرشيق والتخلص من البيروقراطية السلبية والمركزية المترهلة التي حولت كثير من الأجهزة المركزية إلى مباني تعج بالكتبة والمراسلين والموظفين الذين يديرون كافة أمور التنمية في المناطق دون عناء لفهم كافة الاحتياجات وكيفية رسم الأولويات من الواقع اليومي والمشاهد وليس بناءً على تقارير روتينية مفصلة تناسب كل شيء (all size) أو زيارات رسمية وقتية لا تسمن ولا تغني من جوع. 

إن تنمية 2030 وما بعدها ليست كتنمية ما سبقها نوعاً وكماً ولذا فلتكن الآليات والأساليب للتنفيذ بما يتناسب مع ذلك.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق