تمر منطقة الشرق الأوسط حاليآ بحراك كبير وتجاذبات دولية غير مسبوقه كان فتيل إشعال نارها هو مايحصل في غزه حيث أختلط الحابل بالنابل وكل حرك قواه الصلبة والناعمة لفرض مصالحه على أرض الواقع.ولذا عاد مرة أخرى مصطلح الشرق الأوسط الجديد واحتل صدارة وسائل الإعلام والكل يقول "الحل عندي وانا أبو هندي" حتى أن البعض من خارج المنظومة العربية أقترح أن يشارك في إدارة غزه بعد توقف أتون النار والحرب وكأن الأرض العربية لقمة سائغة حان وقت أكلها فلم تعد سوريا ولبنان والعراق واليمن تشبع نهمهم . ومما لاشك فيه ان أكثرنا يتكرر على مسامعه منذ سنوات مصطلح بناء شرق أوسط جديد وكان يردد و يتردد وينطلق غالبآ من جهات قريبة من متخذي القرار في واشنطن على وجه الخصوص وبدرجة أقل في لندن وتل أبيب و بعض الدول التي تدور في فلكها . طبعاً هذا المصطلح يقوم على فكرة مبنية على مبدأ إستراتيجي(حسب قناعتي) يهدف ويسعى (بجانب المصالح للدول الكبرى ) لضمان بقاء إسرائيل والمحافظة على مصالحها وتقزيم أو إنهاء القوى ذات الاتجاه المخالف لذلك . سنوات طويلة ونحن نسمع ذلك حيث يتم تبرير ما يحصل من أحداث في المنطقة من حروب أو قلاقل أو تغيرات إجبارية بإن ذلك يتمشى مع هدف إنشاء الشرق الأوسط الجديد .
هذه الفكرة الحائمة في سماء الشرق الأوسط تشهد تجاذباً بين من يصدقها وبين من يكذبها ويرى أنها بعبعاً تم خلقه لهزيمة شعوب ودول المنطقة نفسياً وتصويرهم بالمهددين والعاجزين عن إدارة مستقبلهم في ضوء قناعاتهم ومصالحهم . ولذا فقد أصبح الوقت مناسبآ بأن نكون واضحين بخصوص مصالح المنطقة من منظور ذاتي بعيداً عن توجهات وتوجيهات القوى العظمى فأي فذلكات أخرى غير المصالح هي رتوش وديكورات للتجميل. ولذا فإن استغراب البعض من تبدل مواقف الدول وتحولها من شرق إلى غرب أو العكس ليس في محله وغير واقعي لفهم العلاقات الدولية . إن إنتقال علاقة بين دولتين من حرب إلى سلم ثم صداقة أو العكس هو ممارسة مستمرة والتاريخ مليئ بالشواهد على ذلك فاليابان على سبيل المثال كانت عدواً لأمريكا في الحرب العالمية الثانية بينما هي اليوم حليف مقرب وروسيا كانت حليفة لبريطانيا وفرنسا أثناء إتحادهم ضد النازية بقيادة هتلر زعيم ألمانيا بينما هم اليوم في حالة حرب ظاهرة . وزبدة الموضوع أن لاصداقات دائمة ولا عداوات دائمة بين الدول وإنما مصالح تتوافق وتتقاطع وتتعارض ومنها ما يصل إلى العتب أو حتى القطيعة. ويجب أن نعلم كذلك بأن الدول العظمى كثيراً ما تقوم في سبيل تحقيق مصالحها بممارسة أدوات الضغط لإيقاف الدول النامية من ممارسة حقها بالبحث عن مصالحها وذلك باستخدام أساليب متعددة من أهمها إثارة القلاقل أو استخدام المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني وما يتبعها من وسائل إعلام لإرهاب أي دولة تحاول أن تقف في وجه الدول العظمى الغربية ووضعها تحت الضغط المعنوي . إن هذا الاسلوب وهو ما يمكن تسميته اسلوب التشتيت الذهني الذي يقوم على إعداد تقارير وهمية تحت مسمى حقوق الإنسان أو حرية الإعلام أو فبركة التهم وإلصاقها في قادة قادة دول العالم الثالث وكل ذلك بهدف خلق البلبلة وإيجاد الفجوة بين القيادات وقواعدها الشعبية . وهذا أمر نراه كل يوم لقادة كثير من دول العالم في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا . وقد يقول قائل إذا كانت هذه الإدعاءات غير صحيحة فكيف تحقق أهدافها وهنا نقول أن استخدام التكثيف الإعلامي وغسل المخ وتهيئة العقلية المستقبلة لمثل ذلك ليس أمراً صعباً أو جديداً ولعل أهم مقولة يمكن الإستشهاد بها هو ما كان يردده وزير الإعلام النازي الشهير جوبلز (إكذب ثم إكذب ثم إكذب حتى يصدقك الناس ).
وعليه فإن موضوع بناء الشرق الأوسط الجديد واختلاف الآراء حوله وبصرف النظر عن مدى القناعة بأي الرأيين حول صحته وكذبه واللذين أشرنا لهما في بداية المقالة إلا أن تكراره كمصطلح سياسي وتواجده في الدراسات والأبحاث والندوات يجعلنا نتسأل لماذا لا نسبح مع التيار ونأخذه كمصطلح ممكن تكييفه ونسجه بنكهة إقليمية. وإذا اتفقنا على القبول بذلك فإن السؤال الآخر المهم هو هل تتوفر العناصر والإمكانات لإنتاج شرق أوسط جديد بخلطة ونكهة مختلفه عن ماهو مطروح ؟ الجواب نعم كبيره ولا إختلاف حول ذلك.
أعتقد جازماً أن مثل هذه الأفكار العامة لها وجودها عند الجهات المهتمة بالفكر الإستراتيجي وأنها تعمل عليها بطريقة أو أخرى أو حتى على الأقل تأخذ زوايا معينة محدودة وتعمل على تطويرما يصلح منها للمرحلة .
مما لاشك فيه أن عالم اليوم الجيوسياسي يشهد تموضعاً جديداً يعاد فيه توزيع النفوذ وإقتسام الأرض والموارد وكأنه يتم بناء يالطا جديدة حيث لم تعد إتفاقية يالطا القديمة كافية لإرضاء نهم وحاجة أصحابها.
كما أن هنالك قوى جديدة بدأت التحرك على الأرض لإيجاد موطئ قدم لها في العالم الجديد الذي بدأت فصول رسمه بما يسمى الحرب الروسية الأوكرانية . إن هذا المسار العالمي الجديد سيستمر لسنوات حتى تكتمل ملامحه مهما قيل من إيقاف أو هدنات مؤقتة فقطار التغيير الدولي إنطلق ولا أحد يعلم متى يصل إلى محطته الأخيرة ولكن من السذاجة النظر إليه بنظرة قاصرة من أن ذلك حادث عرضي ومؤقت . فالحقيقة أن إرهاصاته لها سنوات سابقة وستستمر لسنوات قادمة حتى يتم الوصول إلى عالم جديد يرضي الشركاء ويشبع نهمهم للهيمنة والسيطرة الدولية ، وأرجو أن لا يقلل أحد من هذا الكلام ويراه ترهات وردات فعل لما يحصل ولكنني مقتنع بأن الزمن سوف يؤكد ذلك وإن غداً لناظره لقريب . ولا شك أن العالم قد يشهد قريباً الكثير من الإنهيارات السياسية والإقتصادية خاصةً في دول العالم النامي إذا لم تتحرك لتفادي ذلك.
وبالعودة إلى فكرة هذا المقال وهي هل هنالك إمكانية لإنتاج شرق أوسط جديد بأدوات ومعطيات محلية\إقليميه ؟ الجواب نعم ولكن لابد من البدء بتجهيز الموارد الفكرية والبشرية والبحثية لرسمه ومواجهة العقبات وإيجاد الحلول لها . إن أهمية البدء حالياً هو خطوة إستباقية ضرورية ستكون عنصراً هاماً لتقليل التكاليف وتعظيم الفوائد فالمثل الشعبي يقول "من سبق لبق" والأمر لا يحتاج إلى كثير من الذكاء لمعرفة ما سيتم في العالم خلال السنوات القادمة فإما أن تكون متبوعاً أو تابعاً .
إن الحراك على خريطة السياسة الدولية يحتم على ذوي الإرادة العمل على رسم شرق أوسط جديد لا يخضع لمعايير ومواصفات المجتمع الغربي ولكنه نابع من العمل عليه كمنتج محلي يتم صناعته وإدارته بفكر وإدارة جديدة وهي متوفرة ولله الحمد.
إن شرقآ أوسطيآ جديدآ كمنتج محلي قد يكون ثمنه عالياً في البداية ولكنه أمر لابد منه فعدم القيام بذلك يرفع التكلفة ويجعل الثمن أضعاف مضاعفة عندما يتم إستيراده أو فرضه .
إن حساسية هذا الموضوع وصعوبة طرح كافة مكوناته في العلن يجعل في الفم ماء ومن ذا الذي يستطيع الكلام وفي فيه ماء . ولكن نبتة الفكرة وجذورها واضحة وواقعية وهي جاهزة لتكون محل دراسة وتطوير عند المهتمين بالفكر الإستراتيجي.
وعلى الجميع الإيمان بأنه " إذا فات الفوت ما ينفع الصوت " .
ولاشك أن مثل فكرة الشرق الأوسط الجديد المستهدف لابد أن يرتكز على أسس ومبادئ عديدة منها (حسب فهمي البسيط) :
1- إعادة النظر في أسس العلاقات الدولية وتحديثها بما يتناسب مع الهدف المنشود.
2- تطوير الممارسة للجغرافيا السياسية الإقليمية .
3- تقييم الدوائر الإقليمية الجامعة للدول في المنطقة وتقييمها والإستغناء عن ما هو غير ضروري ومفيد للمستقبل الدولي الذي سيحكم العالم .
وبالله التوفيق.
مقال جرئ وطرح في محله وفقك الله
ردحذف